wt_fDtXOHDwq2bPONdN2n4_S_po بني يلمــــــان: اليلمانيون… بأي ذنب قتلوا؟

اليلمانيون… بأي ذنب قتلوا؟

375شخصا أبيدوا في 28 ماي 1957
روبورتاج: حكيمة ذهبي
تصوير: بلال شريد

كدأبهم السنوي، يخلّد سكان دوار “بني يلمان” بالمسيلة، اليوم الثلاثاء، ذكرى المذبحة الرهيبة التي أزهقت 375 روحا في 28 ماي 1957 بالمنطقة التي كانت تسمى ملوزة آنذاك، ولا تزال كثير من علامات الاستفهام تطبع هذه الذكرى المؤلمة، لما تنطوي عليه الحادثة من غموض لم تفلح 55 سنة في فك شفراته، والإجابة عن السؤال الهاجس: لماذا أبيد سكان “بني يلمان”؟.

تراب يساءل الحقيقة
تحاكيك الأرض والسماء بدوار “بني يلمان”، وأنت تزوره لأول مرة، فالمنطقة شمخت في وجه أقوى جيش استعماري ككل رقعة في تراب الجزائر، ووجدت فرنسا نفسها في ورطة من أمر هؤلاء السكان، الذي أبوا أن يقدموا لها الولاء رغم القهر الذي عرضتهم له، ولجأت إلى كل الأساليب لكسر شوكة العزة والتحرر لديهم. ونقش التاريخ صمود أهاليها أمام أبشع أساليب القتل والتدمير والمناورات، وتعد مجزرة “بني يلمان”، إحدى المناورات التي مورست ضدهم، فأتت على أكثر من 300 يلماني، لا تزال خلفياتها في طي الكتمان بعد 55 عاما على أبشع جريمة بتصنيف الأمم المتحدة.
وما لم تلقه المنطقة بعد الاستقلال، يقول سكانها، هو الاعتراف بمساهمتها المشرفة على مر التاريخ، حيث مازالت تعاني من تجاهل الكثير من الكتاب والمؤرخين لها. وحتى مذكرات وشهادات بعض المجاهدين، لم تمنحهم نصيبهم من التأريخ.
وتكشف بعض الحقائق التي وقفنا عليها من خلال رصد شهادات بعض من عايشوا المجزرة، لدى تنقلنا إلى دوار “بني يلمان”، ومقارنتها بشهادات أقلية من المجاهدين، على غرار بن طوبال ولخضر بورقعة، لجوء فرنسا إلى إدارة حرب نفسية بين كل من الجناح العسكري للمصاليين بقيادة بلونيس وجيش التحرير، لتقطف ثمار عمل إجرامي بدماء جزائرية.
ذاكرة المكان وجرح الذاكرة
تقع بلدية بني يلمان شمال غرب المسيلة بـ 60 كلم وهي الولاية حاليا، وتبعد عن دائرة سيدي عيسى بـ 40 كلم شرقا وشمالا، يتربع دوار بني يلمان على مساحة حوالي 100 كلم مربع، كان يقطن سكانه مشات عند سفوح الجبال وعدد هذه المشاتي أو التجمعات السكنية 13 مشتة، تكوّن الدوار منذ بداية القرن الماضي 1900، بينما كانت قصبة بني يلمان هي المجمع الأساسي للسكان من قبل وجود الأتراك، وقد شهدت القصبة مقاومة ضد الاستعمار الفرنسي أثناء ثورة المقراني وبومزراق، وكان عدد من شبابها حين ذاك متمردين سماهم الاستعمار وعملاؤه “منافقون” ينشرون الرعب بين عملائه حتى توفوا.
السكان: التاريخ لم ينصفنا حتى بعد الاستقلال
كانت الساعة تشير إلى حدود الثامنة ونصف صباحا عندما وصلنا إلى دوار “بني يلمان”، ونحن في انتظار اللقاء بدليلنا مصطفى، الذي سيقودنا إلى “مسرح” الجريمة، قصدنا المركز الثقافي التابع لبلدية ونوغة، وتجولنا بمتحفه، قبل أن يلتحق بنا رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية ونوغة، جحجح علي، هذه البلدية التي تضم في إقليمها دوار ملوزة ودوار بني يلمان.
يتقاسم رئيس البلدية مع سكان منطقة “بني يلمان”، شعورهم بـ “الحقرة” والاتهام الباطل بالخيانة والعمالة، فتحمل نبرات صوته وهو ينقل لنا شهادات بعض من عايشوا الجريمة، “حقدا” على التاريخ المغلوط الذي لم ينصف منطقة نقش سكانها دربا من النضالات كسائر الشعب الجزائري، وتحسب مجزرة ارتكبت في حقهم، عليهم. ويواصل رئيس بلدية ونوغة نقله لتساؤلات لا تزال محفورة في أذهان سكان بني يلمان، ويتوارثونها جيلا عن جيل، لعلّ أبرزها “لماذا أعدم أجدادنا؟ ولماذا الاستمرار في تهميش هذه المنطقة؟”.
لم يكن سهلا البحث عن الحقيقة داخل أسوار دوار ينطق ترابه كفاحا ضد من يتهمه بالخيانة، فالتأريخ هنا لم يجد سبيله الصحيح، وكل ما نقل عن منطقة “بني يلمان”، كان من قبل مؤرّخين لا يعرفونها قطّ، – كما يقول دليلنا- فحتى التسمية لم تأخذ نصيبها منها، حيث استمر سلب سكان بني يلمان حقهم في اسمهم بعد الاستقلال، فالمجزرة التي راحوا ضحيتها تسمى “ملوزة” وونوغة تطلق على منطقة أولاد جلال، و”ملوزة”، حسب محدثنا، أطلقتها فرنسا على المجزرة بعدما رفضت تسميتها باسمها عمدا، حتى تستمرّ أسوار الحصار على بني يلمان وماضيها المجيد، واستمرّ الحال على ما هو عليه حتى بعد الاستقلال.
قادنا دليلنا عبر جولة استطلاعية في المنطقة، وما لمسناه ونحن نجولها هو إحاطة كل سكانها بالمعلومة التاريخية الصحيحة حول أصول المنطقة، فهنا لا فرق بين متعلم حاصل على شهادات عليا وبين محدودي المستوى الدراسي، الكلّ يروي لك بالتفصيل ماذا حدث ذات 28 ماي 1957، وحتى قبل حادثة المجزرة، وإن لم تنصفهم الكتب التاريخية وشهادات مجاهدين، فقد نقشوا تاريخهم بأيديهم عبر توارثهم لسرد كفاحات المنطقة في سبيل تحقيق الاستقلال وتقديم المساعدات لجيش التحرير.
يقول دليلنا إن الرقعة التي وقعت فيها مأساة “بني يلمان” كانت مسرحا لتجاذب ثلاثة أطراف، كل يسعى لبسط نفوذه والهيمنة عليها لما لها من أهمية: الموقع الجغرافي والتضاريس الوعرة، فالـ 1200 م يمكنه رصد جميع التحركات من الشمال إلى الجنوب ومن الشمال إلى الشرق، حيث تقع في أقصى جنوب الولاية الثالثة وحدود الولاية السادسة من شمالها والولاية الأولى وتتاخم حدود الولاية الرابعة. 
إذن فتأخر وصول الطلائع الأولى للثورة من كلتا الجهات في تثبيت نظام جيش وجبهة التحرير في بداية الثورة بالمنطقة ولجوء فلول الحركة الوطنية (البلونيسية) إليها بعد المطاردة التي تعرضت لها بالولاية الثالثة والرابعة، مكنها من بسط نفوذها على هذه الناحية حيث كان التواجد الفرنسي قليلا، إذ ارتكزت قواته في المناطق التي عرف فيها جيش التحرير نشاطا كثيفا، فما هو حال الثورة عشية الأحداث.
مسرح المجزرةأرواح الأموات تساءل الأحياء: لماذا أبدنا؟
وصلنا إلى المنطقة التي شهدت مسرح المجزرة، يقشعّر بدنك وأنت تقف أمام مدخل القصبة، تواجهك لافتة كبيرة كتبت عليها لمحة تاريخية عن المجزرة، ليقابلك سياج أحيطت به المنطقة. يتراءى لك وأنت تلج المكان لأول مرّة، أن الجريمة قد حدثت بالأمس، فالبيوت التي كان سكان المنطقة يقيمون فيها لازالت بقاياها شامخة، وهي لا تختلف كثيرا عن بعض البيوت المجاورة للمنطقة، شيدت بواسطة حجارة رصّت بإحكام بواسطة الطين. والغريب أن المنطقة تعرّضت لعدة زلازل آخرها كان يوم 14 ماي 2010، ولم تحدث أي أضرار بالبيوت، وكأنها تقف بالمرصاد للطبيعة كما التاريخ، الذي أراد لها أن لا تكون وأن تمحى.
مدخل القصبة، مسرح المجزرة، طريق جبلي سهل، اصطفت على ضفتيه قبور الضحايا، الذين دفنوا من قبل من تمكنوا من النجاة من المجزرة، وعددهم كان 12 أغلبهم من الأطفال والنساء، واصلنا صعودنا الذي بدأ يصعب لأن جبل “خاوة” أصبح أكثر وعورة، وعلى بعد أمتار دفن ضباط جيش التحرير الوطني الذين استشهدوا هناك، ويقول شاهد عيان على المجزرة “عمي لخضر”، إن هؤلاء الضباط قد تم قتلهم بعدما لم يطيعوا أوامر قيادهم بذبح المواطنين، وعددهم يبلغ 12 ضابطا.
زريق أحد الناجين للوسط: “أقسى مشهد ذبح والدي
لخضر زريق، هو أحد من كتب له عمر آخر بعد مجزرة 28 ماي 1958، لأنه كان في عداد الأطفال آنذاك في سن 14. استطاع عمي لخضر وهو يسرد لنا كيف تمت إبادة أكثر من 370 مواطنا جزائريا، من بينهم والده وأعمامه، أن ينقلنا عبر صورة درامية حقيقية، لم يستطع أن يكبت خلالها دموعه وهو ينظر بعين بعيدة إلى مكان الجريمة “القصبة”، يقول عمي لخضر إنّ تلك الحادثة لم تمح من ذاكرته ونقشت فيه شعورا لا يمحى.
بدأت الأحداث منذ الساعات الأولى لصبيحة 28 ماي 1958، عندما لاحظ أطفال دوار “بني يلمان” وجود جيش يحاصرهم عبر الجبل المقابل للدشرة، عندما كانوا متوجهين نحو الغابة لجمع الحطب، وقام هؤلاء الجنود بمنعهم من ذلك وأمروهم بمعاودة أدراجهم، وقاموا بإطلاق الرصاص، فغادر الأطفال دون أن يعرفوا إلى أيّ جيش ينتمي هؤلاء الجنود.
وخرج بعدها الرجال باتجاه السوق، غير أنه تم إرجاعهم من طرف ذات الجنود، الذين قالوا لهم “كل من هو من بني يلمان يمنع من الخروج”، وتمكن هؤلاء الرجال من معرفة أنّ الضباط هم من جيش التحرير، وكان يقودهم عبد القادر البريكي المدعو سحنوني والحشتومي، وعادوا إلى الدوار متبوعين بالجنود، الذين أوقفوهم مرة أخرى وأحرقوا السيارة التي كانت تقلهم، بعدما أمروهم بالنزول منها والترجّل نحو منازلهم.
ويتابع عمي لخضر قائلا إنه عندما عاد من مدرسته، رأى سحنوني يقتل أربع مواطنين في منازلهم بجبل “الظهرة” وهي إحدى المداشر في الدوار، وفي غضون ذلك قام بقية الجنود بمحاصرة منازلهم في “القبلة”، ليصل سحنوني الذي حاول إحراق المنازل وأشعل عود كبريت ثلاث مرات وانطفأ، “فطلب منه والدي أن يسمح له بإخراج أمي وإخوتي من المنزل قبل أن يحرقه، غير أنه لم يسمح لنا وقام باقتيادنا أنا وأبي وأعمامي وإخوتي إلى مكان كبير، أين وجدنا سكان من الظهرة قام الجنود باقتيادهم، وجمعونا هناك، وأخبرونا أن ممثلين عن جبهة التحرير سيلقون علينا خطبة، ونحن في انتظار ذلك لاحظنا طائرة تحلق فوقنا ثم مرت.
بعدها اقتادونا إلى منازلنا وكان الوقت آنذاك ما بين صلاة العصر والمغرب، وبقينا هناك مجمعين في مكان واحد يحرسنا أحد الجنود، وكان يقول وعيناه مغرورقتين بالدموع “جبل عبد الرحمان يتزنزل لي عندو الزهر يحفر ولي عندو جناح يطير”، وكان كلما رأى بقية الجنود يدخلون يسكت، كان يحاول من خلال ذلك أن يشير لنا أننا سوف نقتل لكننا لم نفهم إشارته.
بعد حوالي 15 دقيقة من قبوعنا بالمكان، دخل علينا أحد الضباط وأمرنا بتقديم كل ما نملكه من نقود ووثائق، وأخبرونا أنهم سيعيدونها لنا بعد انتهاء الخطبة. بعدها بدأوا ينادون علينا الواحد تلو الآخر للخروج، ولا أحد كان يعلم أن الذي يخرج يتم ذبحه، إلى أن وصل دور أبي الذي كنت ممسكا بذراعه بقوة، أمروه بالخروج فرفضت أن أترك ذراعه لكنه سرعان ما قال لي “روح روح يا وليدي والسماح”. يتوقف عمي لخضر لبرهة في هذه اللحظة التي أثرت فيه كثيرا، قبل أن يواصل حديثه: “بعد ذلك بدأوا يقتادون الرجال بشكل خماسي لذبحهم وهنا سمعنا أحد السكان يصرخ “اسمعوا راهم يذبحوا راهو لي يخرج يموت”، وهو الصراخ الذي أثار زوبعة في المكان، فانطلقنا فارين في كل جانب، وهو ما جعل الجنود يطلقون الرصاص علينا حتى قتلوا جميع الرجال، عدا الأطفال الذين اقتادوهم إلى الاسطبل.
وحسب إفادات محدثنا، كان عدد المواطنين المقتولين يضاهي 375، من بينهم 12 جنديا تابعا لجيش التحرير رفض عملية التقتيل، وهم حاليا مدفونون إلى جانب السكان الضحايا. وبقينا نحن نمشي عائدين أدراجنا إلى منازلنا أين كانت النساء.

بورقعة: “ما وقع خطيئة
يروي الأخضر بورقعة أحد قادة الولاية الرابعة التاريخية، أنّه بحكم تموقع منطقة ملوزة على مستوى ممر الأفواج المتجهة نحو الشرق، من القبائل السفلى ببني ورتيلان حتى جبال الشريعة، عمد المصاليون إلى التمركز بها تحت قيادة بلونيس.
ويقول بورقعة: “الشعب مشى معهم وساندهم معتقدا أنهم مجاهدين، لكن الذي لم يكن يعرفه عامة الناس أنّ المصاليين انشقوا عن الثورة وعن جيش التحرير، ولما زادت قوة جيش التحرير اضطر المصاليون إلى الانسحاب نحو الجنوب، وبقيت آثارهم في تلك المنطقة وهنا وقع الخلل، وأغلب الظن أن سكان بني ولمان بقوا على اتصال بالمصاليين من خلال تزويدهم بمعلومات عن تحركاتنا، وكان بيننا وبين المصاليون مسألة حياة أو موت، لذلك كانت تقع الكارثة كلما مرت دورياتنا المتوجهة نحو الأوراس”..

ويلفت بورقعة الانتباه إلى أنّ جماعة الولاية الثالثة بحكم تواجد المنطقة في مجال تحركاتهم، تكفلت بتوفير الحماية لدوريات الدورية الرابعة وذلك بعد أن سقط 111 من الجنود دفعة واحدة.